فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتكذيبهم العذاب هو أنهم كانوا يقولون في الدنيا إنه لا عذاب في الآخرة، ويحتمل أن يراد بالتكذيب أنهم يقولون في الآخرة أول ما تأخذهم النار أنه لا عذاب فوق ما نحن فيه، فإذا زاد الله لهم ألمًا على ألم وهو قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} صاروا كاذبين فيما زعموا أنه لا عذاب أزيد مما هم فيه، وعلى هذا يمكن أن يراد بالخروج منها والإعادة فيها هو أن أبدانهم تألف النار وتتعودها فيقل الإحساس بها فيعيد الله عليهم إحساسهم الأول فيزيد تألمهم، ومن هنا قالت الحكماء: إن الإحساس بحرارة حمى الدق اقل من الإحساس بحرارة الحمى البلغمية مع أن نسبة الدق إلى الثانية نسبة النار إلى الماء المسخن، ونظيره أن الإنسان يضع يده في الماء البارد فيتألم أولًا، ثم إذا صبر زمانًا طويلًا زال ذلك الألم وذلك لبطلان حسه. ثم حتم على نفسه أنه يذيقهم عذاب الدنيا من القتل والسر والقحط قبل أن يصلوا إلى عذاب الآخرة. وعن مجاهد: أن الأدنى هو عذاب القبر.
وإنما ليقل الأصغر في مقابلة الأكبر، أو الأبعد الأقصى في مقابلة الأدنى، لأن الغرض هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر والكبر ولا بالبعد.
ومعنى قوله: {لعلهم يرجعون} والترجي على الله محال لنذيقهم إذاقة الراجين رجوعهم عن الكفر والمعاصي كقوله: {إنا نسيناكم} أي تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلًا اي نذيقهم على الوجه الذي يفعل الراجي من التدرج، أو نذيقهم إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه. قال في التفسير الكبير: إن الرجاء في أكثر الأمر يستعمل فيما لا تكون عاقبته معلومة، فتوهم الأكثرون أنه لا يجوز إطلاقه في حق الله تعالى وليس كذلك، فإن الجزم بالعاقبة إنما يحصل في حقه بدليل منفصل لا من نفس الفعل فإن التعذيب لا يلزم منه الرجوع لزومًا بينًا. قلت: هذا يرجع إلى التأويل الأول، فإن الكلام في تعذيب الله هل هو يستدعي الرجوع على سبيل الرجاء أم لا، وكون مطلق التعذيب مستدعيًا لذلك لا يكفي للسائل. وقالت المعتزلة: لعل من الله إرادة وإرادة الله فعل المختار لا تقدح في اقتدار الله إذا لم يختر المختار مراد الله كما أنهم لم يختاروا التوبة والرجوع عن الكفر وإلا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر. وإنما يقدم في اقتداره إذا تعلقت في إرادته بفعل نفسه أو بفعل المضطر المقسور ثم لا يوجد ذلك الفعل. وجوَّز في الكشاف أن يراد: لعلهم يريدون الرجوع إلى الدنيا ويطلبونه كقوله: {فارجعنا نعمل صالحًا} سميت إرادة الرجوع رجوعًا كما سميت إرادة القيام قيامًا في قوله: {إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] ثم بين أنهم إذا ذكروا بالدلائل من النعم أولًا والنقم ثانيًا وهو العذاب الأدنى ثم لم يؤمنوا فلا أحد أظلم منهم.
ومعنى {ثم} أنه ذكر مرات ثم بالآخرة {أعرض عنها} والفاء في سورة الكهف تدل على الإعراض عقيب التذكير وقد سبق. وقال أهل المعاني: ثم هاهنا تدل على أن الإعراض بعد التذكير مستبعد في العقول. قال المحققون: الذي لا يحتاج في معرفة الله إلا إلى الله عدل كقوله: {أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [فصلت: 53] كما قال بعضهم: ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله. والذي يحتاج في ذلك إلى دلائل الآفاق والأنفس متوسط، والذي يقر عند الشدة ويجحد عند الرحمة ظالم كقوله: {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه} [الروم: 33] والذي يبقى على الجحود والإعراض وإن عذب فلا أظلم منه. وحين جعله أظلم كان ظالم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ليدل على إصابة الأظلم منهم النصيب الأوفر من الانتقام. ولو قال إنا منهم منتقمون لم يكن بهذه الحيثية في الإفادة. ثم عاد إلى تأكيد أصل الرسالة مع تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: {ولقد آتينا موسى الكتاب} قال جار الله: اللام للجنس ليشمل التوراة والفرقان.
والضمير في {لقائه} للكتاب أي آتينا موسى مثل ما آتيناك ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تك في شك من أنك لقيت مثله. واللقاء بمعنى التلقين والإعطاء كقوله: {وإنك لتلقى القرآن} [النمل: 6] وقيل: الضمير في {لقائه} لموسى أي من لقائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة، أو من لقاء موسى الكتاب وهو تلقيه له بالرضا والقبول. والضمير في {جعلناه} للكتاب على أنه منزل على موسى.
واستدل به على أن الله تعالى جعل التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. ثم حكى أن منهم من اهتدى حتى صار من ائمة الهدى وذلك حين صبروا أو لصبرهم على متاعب التكليف ومشاق الدعاء إلى الدين بعيد إيقانهم به. وفيه أن الله تعالى سيجعل الكتاب المنزل على نبينا أيضًا سبب الاهتداء والهداية وكان كما أخبر. ومثله إخبار النبي صلى الله عليه وسلم: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ولا يخفى أن من التبعيضة في قوله: {وجعلنا منهم} كانت تدل على أن بعضهم ليسوا أئمة الهدى، وفيه رمز إلى أن بعضهم كانوا أئمة الضلال فلذلك قال: {إن ربك هو يفصل بينهم} الاية. وفيه إشارة إلى أنه سبحانه سيميز المحق في كل دين من المبطل. ثم أعاد أصل التوحيد مقرونًا بالوعيد قائلًا {أولم يهد لهم} وقد مر نظيره في آخر طه وإنما قال في آخر الآية {إن في ذلك لآيات} على الجمع ليناسب القرون والمساكن. وإنما قل {أفلا يسمعون} لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع، وفيه إشارة إلى أنه لاحظ لهم منه إلا السماع. وحين ذكر الإهلاك والتخريب أتبعه ذكر الإحياء والعمارة. ومعنى {نسوق الماء} نسوق السحاب وفيه المطر {إلى الأرض الجرز} وهي التي جز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل. قال جار الله: ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدلالة قوله: {فنخرج به زرعًا} وعن ابن عباس أنها ارض اليمن، والضمير في {به} للماء. وإنما قدم الأنعام هاهنا على الأنفس لأن الزرع لا يصلح أوّله إلا للأنعام وإنما يحدث الحب في آخر أمره. شقال في طه {كلوا وارعوا أنعامكم} [الآية: 54] لأن الأزواج من النبات أعم من الزرع وكثير منه يصلح لإنسان في أول ظهروه مع أن الخطاب لهم فناسب أن يقدموا وإنما ختم الاية بقوله: {أفلا يبصرون} تأكيدًا لقوله في أول الآية {أولم يروا} ثم حكى نوع جهالة أخرى عنهم وهو استعجالهم العذاب. قال المفسرون:
كان المسلمون يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين أي ينصرنا عليهم ويفتح بيننا وبينهم أي يفصل، فاستعجل المشركون ذلك.
ويوم الفتح يوم القيامة فحينئذ تنفتح أبواب الأمور المبهمة أو يوم بدر أو يوم فتح مكة قاله مجاهد والحسن. فإن قلت: كيف ينطلق قوله: {قل يوم الفتح} الخ جوابًا عن سؤالهم عن وقت الفتح؟ فالجواب أنهم سألوا ذلك على وجه التكذيب والاستهزاء فقيل لهم: لا تستهزؤا فكأنا بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان واستنظرتم فلم تنظروا. ومن فسر يوم الفتح بيوم بدر أو بيوم فتح مكة فالمراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل وإلا فقد نفع الإيمان الطلقاء يوم فتح مكة وناسًا يوم بدر. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وانتظار النصرة عليهم حين علم أنه لا طريق معهم إلا القتال نظيره قوله: {قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} [الطور: 31]. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

ولما ذكر تعالى علامة أهل الكفر أن ذكر علامة أهل الإيمان بقوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا} أي: الدالة على عظمتنا {الذين إذا ذكروا بها} أي: من أي: مذكر كان في أي: وقت كان {خروا سجدًا} أي: بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد خضعًا لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم خضوعًا ثابتًا دائمًا {وسبحوا} أي: أوقعوا التسبيح به عن كل شائبة نقص متلبسين {بحمد ربهم} أي: قالوا سبحان الله وبحمده. وقيل: صلوا بأمر ربهم.
ولما تضمن هذا تواضعهم صرح به في قوله تعالى: {وهم لا يستكبرون} أي: عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصير مستكبرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا مكانًا لموضع جبهته في غير وقت الصلاة وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل إبليس يبكي يقول: يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» وهذه من عزائم سجود القرآن فتسن للقارئ والمستمع والسامع.
ولما كان المتواضع ربما ينسب إلى الكسل نفى ذلك عنهم مبينًا لما تضمنته الآية السالفة من خوفهم بقوله تعالى: {تتجافى} أي: ترتفع وتنبو {جنوبهم عن المضاجع} عبر به عن ترك النوم، قال ابن رواحة:
نبيٌّ تجافى جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

والمضاجع: جمع المضجع وهو الموضع الذي يضجع عليه يعني الفراش وهم المتهجدون الذين يقيمون الصلاة. قال أنس: نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم وعن أنس أيضًا قال: نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون صلاة المغرب إلى صلاة العشاء قال عطاء: هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة والفجر في جماعة.
وعنه صلى الله عليه وسلم: «من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة» وعن أنس كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء، وعنه أيضًا قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم راقدًا قط قبل العشاء ولا متحدثًا بعدها فإن هذه الآية نزلت في ذلك، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم» فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه فوقه قبل أن ينام الصغير ويكسل الكبير.
وعن مالك بن دينار قال: سألت أنسًا عن هذه الآية فقال: كان قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الأولين يصلون المغرب ويصلون بعدها إلى العشاء الآخرة فنزلت هذه الآية فيهم، وعن ابن أبي حازم قال: هي ما بين المغرب والعشاء صلاة الأوابين، وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} قال: قيام العبد من الليل، وعن معاذ بن جبل أيضًا قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يومًا قريبًا منه وهو يسير فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: «لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم قرأ: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعملون} ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه فقال: كف عنك هذا فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم».
وعن كعب قال: إذا حشر الناس نادى مناد: هذا يوم الفصل أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع أين الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ثم يخرج عنق من نار فيقول: أمرت بثلاثٍ: بمن جَعَلَ مع الله إلهًا آخر، وبكل جبار عنيد، وبكل معتدٍ، لأَنَا أعرف بالرجل من الوالد بولده والمولود بوالده، ويؤمر بفقراء المسلمين إلى الجنة فيحبسون فيقولون: تحبسونا ما كان لنا أموال وما كنا أمراء، وعن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم وتكفير للسيئات ومنهاة عن الآثام ومطردة للداء».
وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقًا مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه من الانهزام وما عليه في الرجوع فرجع حتى هريق دمه» وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تنفطر قدماه فقلت: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» وعن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها أعدّها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام».
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ربيعة الخرشي قال: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد فيكونون ما شاء الله أن يكونوا، ثم ينادي منادٍ: سيعلم أهل الجمع لمن يكون العز اليوم والكرم، ليقم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا فيقومون وفيهم قلة، ثم يلبث ما شاء الله أن يلبث، ثم يعود فينادي المنادي: سيعلم أهل الجمع لمن العز اليوم والكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم أكثر من الأولين ثم يلبث ما شاء الله أن يلبث ثم يعود فينادي المنادي: سيعلم أهل الجمع لمن العز اليوم والكرم، ليقم الحامدون على كل حال فيقومون وهم أكثر من الأولين، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {تتجافى في جنوبهم عن المضاجع} يقول: تتجافى لذكر الله إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله.
ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة بين أنه لها بقوله تعالى مبينًا لحالهم {يدعون} أي: داعين {ربهم} الذي عوّدهم بإحسانه ثم علله بقوله تعالى: {خوفًا} أي: من سخطه وعقابه، فإن أسباب الخوف من نقائصهم كثيرة سواء أعرفوا سببًا يوجب خوفًا أو لا لأنهم لا يأمنون مكر الله لأنه يفعل ما يشاء {وطمعًا} في رضاه الموجب لثوابه، وقال ابن عباس: خوفًا من النار وطمعًا في الجنة وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئًا بل يطلبون فضله بغير سبب وإن كانوا مجتهدين في طاعته.
ولما كانت العبادة تقطع غالبًا عن التوسع في الدنيا بما دعت نفس العابد إلى التمسك بما في يده خوفًا من نقص العبادة عند الحاجة، وصفهم الله تعالى بقوله تعالى: {ومما رزقناهم} أي: بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوة {ينفقون} من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم فلا يبخلون بما عندهم اعتمادًا على الخلاق الرزَّاق الذي ضمن الخلق فهم بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم.
ولما ذكر تعالى جزاء المستكبرين ذكر جزاء المتواضعين بقوله عز من قائل: {فلا تعلم نفس} أي: من جميع النفوس مقربة ولا غيرها {ما أُخفي} أي: خبئ {لهم} أي: لهؤلاء المذكورين من مفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم في الصلاة في جوف الليل وبالصدقة وبغير ذلك، وقرأ حمزة بسكون الياء والباقون بالفتح.
ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال تعالى: {من قرة أعين} أي: من شيء نفيس تقرّ به أعينهم لأجل ما أقلقوها عن قرارها بالنوم، ثم صرح بما أفهمته فاء السبب بقوله تعالى: {جزاء} أي: أخفاها لهم لجزائهم {بما} أي: بسبب ما {كانوا يعملون} أي: من الطاعات في دار الدنيا. روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتهم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم} الآية وعن ابن مسعود قال: إنه لمكتوب في التوراة لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وإنه لفي القرآن {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.
وعن ابن عمر قال: إن الرجل من أهل الجنة ليجيء فيشرف عليه النساء فيقلن: يا فلان بن فلان ما أنت بمن خرجت من عندها بأولى بك منا فيقول: ومن أنتن؟ فيقلن: نحن من اللاتي قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} وعن عامر بن عبد الواحد قال: بلغني أن الرجل من أهل الجنة يمكث في مكان سبعين سنة، ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه فتقول له: قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب فيقول: من أنت فتقول: أنا مزيد، فيمكث معها سبعين سنة ويلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه، فتقول: قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب فيقول: من أنت فتقول: أنا التي قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.